قلوب لا تعرف الرحمة


عملت في أحد المدارس الاستثمارية -أقصد الخاصة-، وتعرفت على مدرس انجذبتُ إليه كثيرًا، رغم فارق السن الكبير فهو في سن والدي تقريبًا أو يكبُره ببضعة أعوام، رأيت فيه طيبة أهل زمان، وحنو الوالد الرءوف، كنت أبث إليه أشجاني وأحزاني، ولم يبخل عليَّ بنصيحة أوحتى بتضميد جراحات الواقع الأليم، نعم صداقة من نوع خاص، وبعد عدة أشهر تغيب عن العمل، فسألت عنه، وعلمت أنه مريض، وكانت مفاجأةً غير سارة لي ولجميع زملائي، فقد أصيب بسرطان في الرئة، تبًا لهذا المرض اللعين، لا أستطيع أن أصور مدى الحزن الذي أصابني بل وأصاب كل من خالط هذا الرجل الفاضل، الذي أستطاع ببشاشته وطيبة قلبه أن يستأثر القلوب، وعندما قابلته رأيت وجهًا غيرالذي أعرفه، تبدلت لبشاشة حزنًا، والطمأنينة خوفًا من مستقبل مجهول، أخفيت دموعي، حاولت أن أُلقي على مسامعه بعض ما اعتاد أن يسمعه من عبارات التصبير، وأن المؤمن مصاب و.......أحسست بإحساس غريب، يقين أُلقى في روعي، يقول لي: "الله أكرم من أن يخزي مثل هذا الرجل" تذكرت كلمات السيدة خديجة للنبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه الوحي لأول مرة، وظن أنه شر أو مس أصيب به، قالت له: "والله لن يخزيك أبدًا إنك لتحمل الكَّل، وتُطعم الجائع، وتكسو العاري، وتُعين على نوائب الدهر"، نعم الله رحيم الله كريم، خرجت كلماتي له من قلب يملؤه اليقن من شفاء الله له، سمع الرجل كلماتي بروح انهزامية، وتغيب عن المدرسة بسب تلقيه العلاج الكيميائي الذي حول قوته ضعفًا، وعزيمته إلى وهن...ـ

وهنا ظهرت لنا مشكلة، لو استمر هذا الرجل في تغيبه فسوف يتم فصله وربما يفقد مكانه في المدرسة، وحجة أصحاب المدرسة الاستثمارية معروفة: "ما ذنب الأولاد الذي يقوم بالتدريس لهم، سوف يؤثر ذلك على مستواهم وتحصيلهم"، وعلى الفور بادر زملاء مادته في سد فراغه؛ لكي تنتهي هذه الحجة، وكان ذلك قُرب نهاية العام الدراسي، وتمَّ ما أردنا وانتهى العام دون أن يحس الأولاد بأي مشكلة، وبدأ أستاذنا المبجل في الاستجابة للعلاج، ولكنه لازال متعبًا، تحامل الرجل على نفسه وحضر إلى المدرسة، كان مهمومًا بسبب زملائه خوفًا من أن يكون قد أثقل عليهم ، طلبنا منه عدم الحضور ولا يخشى شيئًا فنحن لا نحس بأي مشكلة، ولكنه رفض وأصرَّ، بدأت الأجازة المدرسية، ولكنها كانت للأولد وليست للمدرسين، نعم نحن نأخذ رواتب من المدرسة، ولابد أن نعمل بلقمتنا!! نحضر لا لشيء إلا لإذلالنا، مقابل دراهم معدودة لا تسد احتياجاتنا الضرورية، ومن رفض ذلك فبادربأخذ أجازة بدون راتب، جاء الرجل لا لشيء، بل جاء لتمارس عليه بعض الطقوس السادية، والتلذذ بتعذيب المدرسين!!.ـ

حاولنا أن نطالب إدارة المدرسة بأن يكون هذا الرجل حالة استثنائية لمرضه وضعفه، ولكنها قلوب لا تعرف الرحمة إليها سبيلاً، وذات يوم سقط هذا الرجل من الإعياء الشديد، سقط فاقد الوعي والحركة، هرعنا إليه كلٌ يبذل ما في وسعه لإفاقته، والحمد لله استفاق الرجل واستطعنا أن نبتلع ريقنا بعد أن بلغت منا القلوب الحناجر من شدة خوفنا على هذا المعذب، حاولنا أن نستأذن له لينصرف دون جدوى......_

قدر الله وتركت هذه المدرسة ولكني مازلت أُتابع حالة الرجل التي تحسنت كثيرًا، وتماثل تقريبًا للشفاء وذكرته بكلماتي له: "إن الله لن يخزيك أبدًا"، أما هؤلاء –أصحاب المدرسة- فمازال الكريم يُملي لهم ليزدادوا إثمًا، وعند الله تجتمع الخصوم...ـ

1 تعليقك:

معك حق...لا تعرف الرحمة
هؤلاء قوم إذا صفعوا بالنعال
إشتكت النعال بأي ذنب نصفع..!!
شفاه الله..
وإحساس جميل يا مان!
(:
تحياتي

٢٠ نوفمبر ٢٠٠٧ في ٩:٣٥ م  

رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية